موقع الشاعر تمام تلاوي __ شعرائيل





تمام التلاوي





شِـعرَائِيـل



وزارة الثقافة
(جائزة محمد الماغوط للشعر 2004)








كتبت قصائد هذا الديوان ما بين عامي:1999 و 2003م











" مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد "

(سورة ق, آية 18)

فُصولُ سِيرَتِه


I. أقولُ لمنْ تبِعوني : اسمَعُوني..
1– النبوءة
2- آخِرُ حَسَرَاتِ النّاصِرِيّ
3- نبوءة ٌ بخَرَاب مِصر
4- شِعرائيل

II. عندَمَا جاعوا جرحتُ لهمْ يَدِي ..
5-رأيتُ نهدَكِ مرّةً في الحُلم
6-قصيدةُ القصائد
7-الغُفران
8-عِدِيني..ثمّ لا تأتي
9-أنا كاذبٌ مهما أقُلْ

III. الطُّوفان.. فالخُرُوج
10-الرواية ُالأكثرُ صِحّةً لحادِثَتَيْ الطّوفان
والخروج
11-ثلاثةُ فصول لضمائر الغائب
12-إذا جئتَ قطَّعنَ أحلامَهنّ
13-لم أستطعْ..لم استطعْ

IV. ما لي على الأرضِ بعدِي خليفة..
14-القابضونَ على حَفنةٍ مِن ريح
15-الأرض دفتريَ الصغـير
16-أبشِّركُمْ أنّ موتي قريب
17-سيموتُ بموتي الشِعر
18-أَتَمّوا مراسيمَ دفني

V. المِعرَاج..


* * *












I. أقُولُ لمَنْ تَبِعُوني: اسْمَعُوني..



النُّبُوءَة




ألِفْ . لاَمْ . شينْ . .
أنا خَاتَمُ الشُعَرَاء
أََمُرُّ حزيناً على هيْكلِ السَّابِقِين
أقولُ لمنْ تبِعوني: اسمعوني
سَيَأتي زمانٌ على الأرض
لنْ يَتَبَقَّى هُنَا حَجَرٌ فوقَ آخرَ إلا ويُهدَمُ،
قد يَدّعِيني سِوايَ
فلا تَتْبعُوهُ لكيْ لا تَضِلوا
وسوفَ يُطارِدُكُمْ كلُّ حيٍّ لأجلي
وسوفَ يسُوقونَكُمْ للمُثُولِ أمامَ الملوك,
لذا تشهدونَ بما قد حَفِظْتُمْ منَ الشِعرِ عني..
وسوف يُقَتّلكُمْ أقربُ الناسٍ منكمْ لأجلي
ولكنكمْ لَنْ تموتوا
فإنَّ السمَاءَ بِمَا تحتِها قَدْ تَزُول
ولكنّ أغنيتي
لا تَزُول..




أنا خَاتَمُ الشعَرَاء
تَهِيمونَ في كُلِّ وادٍ معي
تزرعونَ كلامي بأرواحِكُمْ
وتنمو بأعْيُنِكمْ أدمُعي

تعبدُونَ نسائي على سُنَّتي
ترفعونَ لأقدامِهِنَّ الحنين
تُقِيمونَ ما بينَ أفخاذِهِنَّ صَلاةَ القصيدة
ثمّ تُذَكُّونَ أولادَكمْ كلَّ عامٍ على فجرِ أجسادِهِنّ . .
فَيَشْهَدْنَ أنّكُمُ أُمَّتِي
ثم يُدْخِلْنَكُمْ. . جَنَّتي.


أنا خَاتَمُ الشعَرَاء
أقولُ لمنْ تبِعوني:
لقدْ حَقَّ قولي عليكمْ
ولكنَّ مِنْكُمْ رِجَالاً
سَيَنْسونَ أنّيَ رَمَّمْتُ أحلامَهَمْ بِيَدَيّ
ومنكم نساءً سَيوُثِرْنَ آباءَهُنَّ عليّ

أولئكَ هُمْ
مَنْ سَيُرمى
بأعمارِهم
في شجوني.

وإنَّ دَخيلاً عليكمْ
يُخَبِّئُ شيطانَ غيري
لَسَوفَ يَشِيَ بعدَ حينٍ بقلبي
إلى شعراءِ الظلام,
فيُنكرني صاحبي قبلَ ديكِ الصباح.
ولكنّهم بعدَ أغنيةٍ
سَيُضَاؤونَ بي
حينَهَا
يمدحونَ
-جميعاً-
جُنُوني.



أنا خَاتَمُ الشُعَرَاء
أقولُ لمنْ تبِعوني: دعوني
وحيداً أسيرُ إلى آخرِ الأغنيات
دعوني . .
فإنْ عُدتُ يوماً إلى خمرِكمْ
فارفعوني
على مِنْبَري
واصِلبُوني . .


4/ 2/ 1977م

* * *



آخِرُ حَسَرَاتِ النّاصِرِيّ




عيسى ابنُ مريمَ
كلّموا مَهدي، وسَمَّوني نبيَّـا
وورِثتُ عنها آفَةَ الحِرمانِ،
لم يمسسْ بها رجلٌ، فلم تمسَسْنِيَ امرأةٌ،
وعِشتُ
فلم أكنْ غِيَّاً، ولا كانتْ بَغِيَّـا.
عُمري قليلٌ
والذي منهُ انقضى أحلى من الآتي الأقلِّ،
وما انقضى إلاّ شقيّـَا.
وأبي هنالكَ،
لم يلدْ وَلَداً ولم يُولَدْ – يقولُ-
فَيَا لأُمّي كيفَ يُنكرها الحبيبُ
هي التي ضَمَّتْ بهِ حُـلُمَ النخيلِ
وقبَّـلَتْ بَشَراً سَوِيَّـا.





قالوا: المحّبةُ؟. قلتُ: تلكَ وصّيتي في الأرضِ،
فاقتسموا رغيفَ محّبتي.
. . أللهُ كيفَ يصدقونَ، أنا الذي في العمرِِِِ ما أحببتُ إمرأةً، وما مِن مرةٍ شاهدتُ أنثى واشتهيتُ ندىً بعشبِ صباحِِها، أو رَفَّ سِربُ غِوايَةٍ فيها وفِيَّـا.
كيف استطاعوا يملأوا أقداحَهمْ وجرارُ هذا القلبِ فارغةٌ، وما سارتْ بأرضٍ خَطوتي إلاّ أصابَ كرومَها عُقْمٌ.
وحتّى أصدقائي لو أحبّوني بما يكفي لكانوا ليلةً سهروا عَلَيّـَا.
ناموا..
وأما مَنْ صحا منهم وَشَى بي قَبل دِيكِ الفجرِ، واحتفَنَ الدنانيرَ التي لو كانتِ ازدادتْ قليلاً كان سَمَّرَ لي يَدَيَّـا.

نَسرُ الحنينِ الآن ينهشُ ما تبقى من مَدَى روحي: لها فخذانِِ دَجلةُ والفراتُ, وقيلَ: يلتقيانِ في شَطِّ القرنفلِ. ناهداها الطورُ والثورُ الذي أخفى ابن عبدِ منافَ, لكنْ يفضحانِ الفُلَّ. جفناها كتابٌ مُغلقٌ، كتبتْ بحبرِ المقلتينِ على بَيَاضِ العَينِ قُرآناً وإنجيلاً شَجِيَّـا.

مَنْ لي وقد هبطَ الشتَاءُ ونامتِ الدُّنيا على مَهَلٍ ؟
أنا فوقَ الصليبِ الآنَ، أرفعُ دمعتي حتى الأنينِ،
فتنشجُ مَدَّ عينيَّ النوارسُ،
والوحوشُ تطوفُ مِن حولي بُكِيَّـا.
وأقولُ: يا امرأتي وداعاً
كان يلزمُني غيابُكِ كي أراكِ كما أراكِ،
وكان يلزمني حضورُك كي أودّعَكم بلا ندمٍ
وأسكنَ جنّتي مَيْتاً وَحَيَّـا..


عيسى ابنُ مريمَ
لمْ تلِدْني مثلما تلِدُ النساءُ ولا أموتُ كمَا يموتُ الناسُ,
بلْ أرقى رُقِيَّا.
والآنَ يؤلمني الشتاءُ:
كفى بُكاءً يا أبي وانظرْ إليَّـا

مِلْءَ اشتياقِكَ قادمٌ, أنا قادمٌ
كتفايَ يطلعُ فيهما ريشٌ, وتحتَ الرّيشِ يطلعُ لي جناحَا لوْعةٍ شَيَّـاً فَشَيَّـا..
هيَّا أبي, هيِّئْ لأجلي منزلاً يسَعُ العذارى والنساءَ الحورَ, وارفعْهُ علِيَّـا
هيَّا, ومائدةً وأقداحاً وورداً, شمْعَدَاناتٍ وفاكهةً وتخْتاً واسعاً,
وأضِئْ لأجلي في السمَاواتِ الثُّريَّـا
أنا قادمٌ
أنا قادمٌ
هيّـا وهيّـا..


* * *




نُبوءةٌ بخَرابِ مِصر




هَرَماً هَرَماً أهدمُ مِصرَ
وأنصِبُ عرشي القُدسيَّ
أنا سيّدُها الآن
أنا ملِكُ النِّيلِ..
يدِي اليُمنى تغرسُ علَمي في قِمَّةِ "حُورِيبَ"
يدِي اليُسرى تلْتَفُّ على خاصرةِ البحرِ
وظهري مستنِدٌ للسَدِّ العالي العالي.
النسَّاجاتُ نسجْنَ عباءَةَ أمطاري بخيوطِ البرقِ,
وأبصرَني الفلكيُّونَ أقيسُ الحُلمَ بإسطرلابِ الشِّعرِ
فألقى أكبرَهُمْ بخرائطِهِ ومشى في موكبِ أقماري.
منْ كانَ معي فلْيَرفعْ مِعوَلَهُ
كي نمحوَ سيرةَ أهلِ الوادي دَكّاً دَكّاً
ولْيشرَبْ نخبَ الفتحِ
فإنّي قد بدَّلْتُ مياهَ النِّيلِ الآسِنِ خمْراً
أمّا مَنْ كانَ علينا
فسنملأُ بالسوسنِ مِقلاعَ الرّؤيا وسنرجمُ عيْنيهِ
ليبصرَ ما أبصرْنا..




ما إن ألمسُ هرماً حتى يرتَجَّ كثديٍ بين يديَّ ويَسقطَ,
أضحكُ,
أقتلعُ النخلَ وأحرقُ محصولَ القُطنِ, وأضحكُ,
أغمرُ بالبحرِ شمالَكِ يا مِصرَ وبالرّملِ جنوبَكِ
أقهرُ قاهِرةَ المُعتَزِّ وأضحكُ,
أغلقُ أبوابَكِ منْ حولي وأصيحُ:
أنا سيّدُكِ الآنَ وأنتِ امرأتي
نهدُك هذا لي
أطيبُ منْ تفّاحِ الجنّةِ
هذا المُتلألِئُ في الليلِ كقُبَّةِ قصرِ الوالي
هذا النّمْرُودُ العِفْريتُ المُتلَصِّصُ من خلفِ قميصِ الشهوةِ
أقوى منْ صلواتي هذا المُتربِّصُ بي كالنِّّمرِ
وأجملُ من أغنيتي هذا المُشرِقُ كالشاعرِ فوق المنبرِ
أعلى منْ قَوسي ونِبالي هذا الماثلُ بدَريئَتِهِ ودوائرِها الكُبرى فالوسطى فالـ..
- سأسدِّدُ ثغري نحو الصغرى- وأتابعُ:
أذكى من شيْطاني
وأشدُّ غُروراً من زعماءِ الثّورةِ
هذا المُرتَدُّ المارِقُ عن أمّي ووصايا أمّي
نهدُكِ نهدُكِ هذا لي

يا مصرُ أنا سيّدُكِ الآنَ وأنتِ امرأتي
فامْتَثِلي ألمَسْ مثلَ نبِيٍّ نهدَكِ كيْ يُشفَى منْ حُمَّاهُ
وأضحكُ,
أضحكُ..


هَرَماً هَرَماً أهدمُ مِصرَ
وأنصِبُ عرشِي القُدسيَّ
أنا ملِكُ "الهِكْسُوس"
أهدمُ ما عمَّرَ بالأمسِ أبي ويُعمِّرُ ما أهدمُهُ ولَدِي
- فانتظروا ولَدِي -
أمّا الآنَ فهذي ليْلةُ عُرسي
هذي ليلةُ عُرسي
انتصِبي يا مِصرُ وفُضِّي عنْ بدلتِكِ البيضَاءِ حطامي
فلقدْ أكملْتُ حطامي
حَنِّي بالتاريخِ يديكِ
وجُسِّي أمسي
وتعالَيْ بجِرَارِ الخمرِ ووردِ الخصرِ
وحَبْلِ الفجرِ
فهذي ليلةُ عرسي
هذي ليلةُ عرسي
وانتصِبي
سأمُدُّ أمُدُّ جديلةَ شَعرِكِ
سأُدَلِّيها مِنْ أعلى الغيمِ
وأشنُقُ نفْسِي
أشنُقُ نفْسِي
أشنُقُ.. أشنُقُ.. أشنُقُ نفْسِي..

* * *


شِـعرائيل



جاءَني في ليلةِ السبْتِ وقدْ ناموا جميعاً
جاءَني: كنتُ صغيراً
كانَ مبتَلَّ الجناحينِ طويلَ الّلحيَةِ البيضاءِ مُلْتفّاً بأوراقٍ قديمةْ
خلَعَ العِمَّةَ واسْتَسْقَى
فعبّأتُ لهُ خوفي وحاولتُ البكاءْ
مدَّدَ الأيمنَ فوقَ الطاولةْ
قال: يا ابْنِي لا تخَفْ وانتزِعِ الريشةَ هذي مِنْ جَنَاحي
قلتُ: منْ أنتَ؟.. وحدّقتُ بعينَيهِ
-ففاضتْ أعيُني بالخوفِ إذْ أدركتُ كمْ يُشبهني لمَّا أشِيخْ-
قال: شِعرَائِيلُ إسمي, فانزَعِ الريشَةَ واغمِسْها صباحاً بدَوَاةِ البَحرِ واكتبْ فوقَ رملِ البحرِ إسمَكْ.




عندما غادرَني في ليلةِ السبتِ
حملْتُ الريشةَ البيضاءَ نحو البحرِ صُبحاً
وكتبتُ اسمي كمَا أوصَى
فجاءَتْ موْجةٌ
غطَّتْ على اسمي ثُمّ عادَتْ
فمَحَتْهُ..




عندما عدتُ إلى بيتي حزيناً
ورأيتُ الليلَ ما زالَ على طاولتي,
من يومِها
من يومِ أن جفَّتْ عيوني أرَقَـاااا
فَاااارَ من ريشةِ أيّاميَ بَحرٌ
وبدَأتُ الغَرَقَـااااا..


* * *




















II. عندَما جاعوا جرَحتُ لهُمْ يدِي..


رأيتُ نهدَكِ مرَّةً في الحُلم



[ 1 ]
الأرض في تعبٍ تدورْ.

[ 2 ]
سنةٌ حنيني..
في الخريفِ:
رأيتُ أيّامي التي تهمي رَذاذاً فوق أرصفةِ انتظاري.
في الشتاءِ:
سكبتُ أحطابي بمدفأةِ الغناءِ، وخمرَ ذاكرتي
بأقداحِ النساءِ.. فلا المدافئُ أدفأتْ صوتي،
ولا الأقداحُ أنستني خمورَكِ.
في الربيعِ:
حملتُ سلّةَ دفتري وجمعتُ أزهارَ المديحِ،
لكي أغطّي جسمَك العاري إذا ما عُدتِ بالريحان.
لكن الربيعَ مضى ولم يتركْ لحبري غيرَ أقلامي التي
ذبلتْ، ولم أتركْ له إلا قصاصاتِ الأنينْ.
في الصيفِ:
أرسلتُ الرسائلَ، ثم أكملتُ السنةْ.
... والآن أَكبرُ في الحنينِ، وكلُّ عامٍ والحنينُ
بألفِ خيرٍ، فاطمئنّي، الأرضُ ما زالت تدورُ،
وباردٌ كانون بعدكِ..


[ 3 ]
نحلةٌ ثغري..
ولكن بعد نهدكِ لم نذقْ عسلاً
وما من مرةٍ قاربتِ ذاكرتي ولم يلسعْ غيابُكِ وحدتي..

كانون بعدك باردٌ..
ورسائلي ذهبٌ – صرختُ –
فصار حزني منجماً في عتمهِ ميّزتُ نهدَكِ بين
آلافِ الكنوزِ،
وكيف لا، وأنا أرى حولي المصلّينَ الذينَ إذا الجفافُ ألمَّ في وديان مِصرَ، يُيَمِّمونَ وجوهَهُمْ شطرَ ارتعاشتِهِ
فيمطرُ لؤلؤاً فوقَ الأكفِّ
وياسمينا...
ما تزالُ تدورُ..
في تعبٍ تدورُ .




[ 4 ]
رأيتُ نهدَكِ مرَّةً في الحلمِ:
حين لمستُه ابيضَّتْ يدِي من غيرِ سوءٍ،
وارتجفتُ،
فطارَ من جسدي الحمامُ
وطافَ في ساحاتِ مكَّةَ،
كان نهدُكِ قبَّةً ذهبيّةً تغفو عليها حُمرةُ
الشفقِ الغروبيِّ،
استبحتُ لشهوتي في الليلِ أن تعلو عليهِ
فانزلقتُ
ورحتُ أهوي
رحتُ أهوي
رحتُ أهوي..

كنتُ أهوي حينما استيقظتُ.

.. عاتبَني ابنُ سِيرينٍ على حُلمي، وقالَ:
بُنيَّ لا تقصصْ على الشعراءِ رؤياكَ التي سَفكَتْ نشيدَكَ.. ثم لا تحلمْ بنهدٍ مرَّةً أخرى لأنَّ النهدَ في الأحلامِ لا يَشفي من الحُمَّى، ولا يُملي على ورقِ الصحَارى نخلةً..

كانونُ بعدَكِ باردٌ, والأرضُ في تعبٍ تدورُ.
وبعدَ نهدكِ باردٌ, والأرضُ في تعبٍ تدورُ،
الأرضُ في تعبٍ تدورُ، تدورُ في تعبٍ،
وبعدكِ باردٌ كانونْ.

* * *



قصيدةُ القصَائد



أخبارُكِ انقطعتْ هناكَ، وهُدهُدي ما عادَ بعدُ, ولم يصلنا من سَبَأْ
فرسٌ يشقُّ بها الرسولُ طريقَ غصَّتِنا، ولا غيمٌ أتانا حاملاً برقَ النَّبَأْ.
ولأن تختيَ مَنقَلٌ، وسقوفَ بيتي ترشحُ الجمرَ الذي جمَّعتُهُ حبراً بأوعيةِ الحنينِ، كتبتُ عمري بالرَّمادِ على
كتابِ الريحِ، واستخلَفتُ من بعدي القصيدةَ لانتظاركِ.

إن شِعري لا يموتُ، لأنَّ كلَّ قصيدةٍ لم تَمتَدِحْكِ، فلن تُعلَّقَ فوق جدرانِ الخلودِ,
أو شاعرٍ ما أبصرتْ رؤياهُ ظلَّكِ، سوف ينقصُ سفرَهُ الغزليَّ إصحاحُ السجودِ.


سأقولُ: إنّي قد عرفتكِ جيّداً،
سيصدقونَ اليومَ فيما يسمعونَ من الموسيقى في ذراعي، منذُ دارت حولَ خصرِكِ، فلأَقُلْ: خصرَ الكمنجَةِ، ولأَقُلْ: ما تبصرونَ على شفاهي ليسَ تَمراً، بل وصايا حلمتيها يومَ أكمَلَتا فِطامي. ولأَقُلْ: هذا المحارُ وهذه الأصدافُ عالقةً بشَعري منذُ نمتُ على شواطئِ فخذها. أمّا اسمراري ذا، فبعدَ شروقِ سرَّتِها. وهذي الزنبقاتُ على جبيني ما تزالُ لأنَّني لمّا مرضتُ امتصَّتِ الحمّى بقُبلتِها عليهِ.

لن أقولَ لهم لماذا شاهدوا خمراً يلطِّخُ كلَّ أعضائي وشَمّوا ياسميناً عندما صافحتُهمْ، أو عندما جاعوا جرحتُ لهم يدي، فانصبَّ من شريانها عسلٌ، وسالَ من الوريدِ الخوخُ والأعنابُ ممّا يشتهونْ...


أخبارُكِ انقطعتْ هناكَ، وهُدهُدي إنْ لم يجئْني بالنَّبأْ,
سأقصُّ تاجَهُ ثم أطحنُهُ بأحجارِ الرّحى وأذرُّهُ ريحاً لتَعتبرَ الصقورُ بمن صَبَأْ.
لو كان لي جانٌ ليأتوني ولوْ بقميصِ نومِكِ أو برائحةٍ به في لمحِ برقٍ أو بطَرْفِ العينِ، كنتُ أَمَرتُهمْ أن يصحبوني في الطريقِ. فوَحدتي سئمتْ بناءَ هياكلِ الذّكرى، وتخريبَ الهياكلِ..

كيف حالكِ يا الحبيبةُ؟
كيف أَنسَتْكِ العروشُ حصيرتي في غرفةِ الكونِ التي أثّثتِها جسداً على جسدٍ؟. أأنسى عندما عبرتْ شفاهي في تأنِّي الناسكينَ مدارَ عنقكِ، أو مجرَّةَ ظهركِ الـْ صَلَّتْ لشامَتِهِ، فطافتْ في السَّديمِ كواكبي.
ورأيتُ آسيا في الطريقِ على اليمينِ. رأيتُ أفريقيا ودلتا النيلِ في ردفَيكِ. عصرَ ظلامِ أوروبا بشَعركِ، خصرَكِ العزفَ الذي في نَاي مِهْراجا الهنودِ، يُرقِّصُ الثعبانَ في جسدي الأليفِ على سلالِ الخصبِ فيكِ.
أنا الذي علَّمتُ أوفيدَ الهوى فنَّ الهوى, وقرأتُ إسمي منْ عصورٍ في صِحافِ الكاماسوترا..

كيف أحوالُ القصيدةِ؟
عندما شبَّهتُ ما بكِ بالعناصرِ والطبيعةِ كنتُ أحسبُني امتدَحتُكِ، يا لَعاري، إنّني لم أمتدحْ إلا العناصرَ والطبيعةَ فيكِ. عذَّبني الملوكُ لأنّني يومَ أستَطَعتُكِ ما استطاعوا ذيلَ ثوبِكِ..
كيف حالي؟
قال لي العرَّافُ في وسعي انتظارُكِ. قال إنّي سوفَ أنجو مرَّتينِ، وإنّني سأعيشُ أطولَ من طريقٍ، قالَ عكّازي ستنخِرُهُ الدّوَابُ ثلاثَ مرّاتٍ، وعظمي قبلَ موتي سوف ينخِرُهُ حنيني سبعَ جمراتٍ،
وفي وسعي انتظارُكِ..
ثم راحَ,
ولم يطمْئِنّي بشيءٍ عن مجيئِكِ.


هُدهُدي عرِّجْ على سبأٍ وبلِّغْها سلامي، قُلْ لها إنّي بخيرٍ، والبلادُ سِنينُها سبعٌ عِجافٌ، والعذارى فاتَهُنَّ حصادُ عذرتِهنَّ، والشبَّانُ مِنْ عُقْمٍ، ونِسوانُ المدينةِ صِرنَ يطبخْنَ الطحالبَ في قُدورِ جماجمِ الأطفالِ.
أخشابُ القناطرْ
حولي انحنتْ تَنْعى جفافَ النهرِ لي تنعى.
وأصبحتِ الدَّفاترْ
لي شمعداناتٍ، وأقلامي غَدتْ شمعي.
وعمالُ المَغاورْ
يستخرجونَ الملحَ من دمعي.

كتبتُ على ضفافِ الليلِ نرجستي التي تذوي, وذاكرتي على جذعٍ من الصفصافِ. لم يسألْنيَ الغرباءُ عن أسبابِ إطراقي، وكيف نَمَتْ شِباكُ العنكبوتِ على لساني، أو لماذا بعدما سكتَتْ أساورُها
غرزتُ مخارزَ الصوّانِ في سمعي.



إذنْ، فأنا أصمٌّ
كيف أسمعُهُ وقد جاءَ النَّبأْ؟

والآن عادَ وعادَ
حطَّ على ذراعي هُدهُدي
لكنّني
أعمى
فكيفَ سأقرأُ الآنَ الرسائلَ
بعدما وصلتْ أخيراً من سَـبَأْ...


* * *


الغُفرَان


سدِّدْ سِياطَكَ وابتعدْ
هيّا ابتعدْ بي وليكنْ هذا الصهيلُ هو الأشدُّ,
اتركْ لها قلبي المعلَّقَ مثلَ رأسِ الوعلِ فوقَ جدارِ
شهوتِها،
ابتعدْ،
أخشى أراها الآن عابرةً بمعطفِها – أمامَ هزائمي –
وحذائِها العالي وقفّازَيْ يديْها الصوفِ.
لم أتركْ لها مفتاحَ بيتي تحتَ مدْعَسَةِ الصباحِ كما تعوَّدْنا,
ولم أقضِ انتظاري نائماً كي أستفيقَ على خطاها في المَمرِّ،
بل انحنيتُ بكلِّ ما أوتيتُ من ضعفٍ أمام خيانةٍ تختالُ مثل أميرةٍ تختالُ، ثم خرجتُ محفوفاً بسخريةِ الحرَسْ.
لم أعتقدْ - وأنا المحاصَرُ بالعُذوبةِ – أنَّ ضربتَها ستحصدُ كلَّ كلَّ سنابلي, وعلى رَحَى الأنثى ستطحنُ وردتي, في بُرهةِ الحُبِّ التي تكفي لأقطفَ قُبلةً من غصنِ قسوتِها، وأذرفَ آخرَ الكلماتِ عند البابِ..

سَدِّدْ أيُّها الحوذيُّ سوطَكَ، وليكنْ هذا الصهيلُ هو الأشدُّ هو الأشدُّ. ولا تفكِّرْ بالحقائبِ أنْ تركناها هنالكَ بلْ بما نحتاجُ من هذي الرياحِ،
ودَعْ هناكَ المنزلَ المهجورَ – قلبي – حوله تعوي ذئابُ العاشقاتِ وفيه تصْطَفِقُ الشبابيكُ – القصائدُ –.
سدِّدِ السوطَ القويَّ تُزمجرِ العضلاتُ في فَخذِ الفرَسْ وتعُضَّ أعناقَ المسافةِ.


لم أكنْ يا حبرُ إلا عابراً كالعابرينَ على محطّةِ صدرِها،
إذنِ انتَشِلْني منْ عِناقٍ ليس يومِضُ فيه إلا نصلُها في خَصرِ ذاكرتي. ولا تندمْ على قمصانِها الشفّافَةِ البيضاءِ واتركْها معلّقَةً بأعلى مِشجَبِ النِّسيانِ..
ما بكَ أيُّها الحوذيُّ؟ هل تبكي؟ وهل تمضي بنا أم أنتَ بي تمضي؟
حَذارِ منَ التَّلَفُّتِ للوراءِ. حَذارِ من شَرَكِ الحنينِ، ومن مناديلِ الصَّبايا
لا ملحَ في دمعاتِهِنَّ، ولا حنينَ بِهِنَّ إلا للمزيدِ وللمزيدِ من الضَّحايا..

قلتُ: امضِ بي بَرَّاً وبَرَّاً.
لا تصدّقْني إذا ما قلتُ: "كان البحرُ محبرَتي، فأرجِعْني إلى حوريّةٍ خلفي تلوِّحُ"
.. يا صديقي إنَّ في شفتَيَّ من قُبُلاتِها مِلحاً، وفي صدري طحالبَ يا صديقي،
فابتعدْ.

وَلَدُ الخيانةِ والخطيئةِ والأَثيمُ أنا أنا
لم أعرفِ امرأةً عشقْتُ ولم أخُنْها
لم أُغَنِّ قصيدةً من أجل واحدةٍ فقطْ
ما عانقتْني مرَّةً بعد الغيابِ ولمْ تشُمَّ على قميصِ رؤايَ رائحةَ الغريمةِ،
ما دخلتُ السوقَ بامرأةٍ تطوِّقُها يدِي اليمنى ولم أخرجْ بأخرى في شِمالي.
.. هكذا يا صاحبي، أنا هكذا أصبحتُ منذ رأيتُها في تختِهِ موجاً من الشهواتِ والصخبِ الحرامْ.
صَبَّتْ على النهدينِ ماءَ الياسمينِ، ودلَّكتْ فخذاً بزيتِ الأقحوانِ وآخرَ اعتصَرَتْ عليهِ البَيْلسـانَ.

هيَ الجميلةُ أختُ هذا البحرِ
والأنثى التي جُنَّتْ بها الأمواجُ.
لمّا أَنجَبَتْها أمُّها ذبحوا بساحةِ بيتِها سبعينَ كبْشاً
واستمرَّ الرقصُ عيداً كاملاً.
كبِرتْ على عنبِ الكرومِ، ولوَّحتْها الشمسُ حتى جسمُها أضحى منَاجمَ للذّهَبْ.
سُلطانةً تمشي, وقد حملَتْ طِباعَ المُلْكِ إرثاً عن سلالتِها.
إذا التفتَتْ تفتَّحتِ الزَّنابقُ حولَ لفْتَتِها
وإن همسَتْ تطيرُ حمائمُ الدّنيا
ووقتَ تشيرُ تكتمِلُ الأَهِلَّةُ في أصابعِها
وحيث تسيرُ تنتشِرُ البراعمُ حول خطوتِها
ولولا أنّها ابتسمتْ لما عُرفَتْ على الأرض الأغاني.
وجهُها : عُدْنَا لأندلسٍ،
وما قصدوا بليلى في المدائحِ غيرَ شامةِ خَدِّهَا.

عشاقُها رفعوا أغانيَهم بيارقَ في سواحلها,
فلمّا قرَّبَتْهُم من قرنفلها المكدَّسِ تحت سُرَّتِها, سُكارى نكَّسوا دمَهم وبيرقَهَمْ سُكارى
واستردّوا كلَّ ما فقدوا من الدّنيا سُكارى
استَخرَجوا الأصدافَ والمرجانَ من دمِها سُكارى
هكذا وصلوا
سُكارى
واستغاثوا بعد ما وصلوا
رأيناهم
سكارى
هكذا ماتوا
وقد ماتوا وما كانوا
سكارى..



كُنْ قويَّاً أيُّها الحوذيُّ
هل تبكي؟
لماذا أنتَ تبكي؟
قفْ قليلاً واسترِحْ
لم تقصدِ الكلماتُ تشرخَ جرَّةَ الذكرى فيَقطُرَ من معانيها الحنينُ, ولم أشَـأْ أن أستجِرَّ الثورَ نحو خناجري بمُلاءتي الحمراءَ مزهُوّاً أمامَ الهاتفينَ بما أَرَقْتُ من البلاغةِ فوق ساحاتِ الألمْ.
لكنَّ قصدي كان أنْ نَسْلو الطريقَ، وأن أقصِّرَ عمرَ حزني.
كان قصدي أستشيرَ بياضَ حكمتِكَ الرَّزينَ لكي يصيرَ سوادُكَ المُنثالُ من قلمِ الحكايةِ شاهداً بين السطورِ على خيانةِ من حَبَبْتُ.
.. أراكَ قد تعبَتْ ذراعُكَ أيُّها المغلوبُ واهترأتْ سياطُكَ.
كلَّما ازدَدْنَا ابتعاداً كلّما جَنَحَتْ بنا فرسُ الحنينِ إلى الحنينِ.
أردتَ أن تنسى بهذا موجةً خانَتْ رِمالَكَ, ما نسيتَ سوى خيانتِها.
أتبكي؟
ثم تغفِـرُ؟
ثم تنسـى؟
قِـفْ إذنْ.
قِـفْ،
قِـفْ لنرجعَ من ضياعِ نشـيدِنَا،
يا أَيُّـها الحوذيُّ.. قِـفْ.


* * *





عِديني.. ثُمّ لا تأتي




ها أنتِ ثانيةً على بابي
على بابي الذي لم ينغلِقْ تقفينَ
غيَّرَكِ الحنينُ ولم تغيِّرْني السنينُ
وعُدتِ عدتِ..
وجدتِ عمري واقفاً كالطفلِ حيثُ تركْتِه ِ
وسمعتِ أرصفتي التي تُفشي ضياعي.

دائماً تأتينَ فجراً
هكذا
سمراءَ في وضَحِ الحنين ِ
ووردةً عذراءَ والفتياتُ شوكٌ،
دائماً تمضينَ أيضاً
هكذا
خصلاتُ شعرِكِ عتمةٌ تشتدُّ حولَ ظهيرتي
وخطاكِ تخفُتُ فوق قارعةِ المدى..


ها أنتِ ثانيةً على بابي إذنْ
بابي الذي لم ينغلقْ أبداً لأجلِكِ.
كلما جئتِ انتبهتُ إلى خياناتي وجافَتْني المرايا،
عارفٌ أنّي سأكذبُ، عارفٌ أنّي سأحلفُ:
والقرنفلِ لم تزُرني بعدكِ امرأةٌ, ولم تعصرْ يدِي كرزاً بحلْمتِها, ولا شفتِي كسَتْها زُرقةَ القُبلِ القويَّةِ.


كيف أنسى أنّكِ الأنثى التي رَبَّتْ ملائكتي
وأنكِ وحدكِ الأدرى بأخطائي
ووحدك من يرى الملحَ الذي يعلو فمي
ويشمّ رائحةَ الغريمةِ في سريري..


بيدَ أنكِ تدخلينَ عليَّ عارفةً بأنَّ حرائقي كانتْ سدى، ورفيفَ صاريتي على قممِ الصبايا لم يكنْ إلا لأنَّ الريحَ تأتي من جهاتِكِ.
كنتِ عارفةً بأنّي إذ أقبّلُ شَعرَها، فأنا أقبِّلُ ما بهِ من غيمِ شعركِ,
أو أطوّقُ خصرَها، فلأنَّ برقاًً فيه ذكّرَني
بخصركِ.


كنتُ منتظراً
وكانتْ عتْبةُ الأيامِ تزدادُ ارتفاعاً
هكذا سهواً إذنْ
عبرَتْ غريمتُكِ الضليلةُ بهوَ محبرتي
فما قرأَتْ على جدرانِ روحي غيرَ إسمكِ.
كلما انتبهَتْ إلى دمعي رأتْكِ على ضفافِ العينِ راسيةً،
وحينَ تصبّ لي كأساً تراكِ فراشةً بيضاءَ حولَ
حوافِ كأسِ القلبِ حائمةً.
عِديني مرّةً إن غبتِ أنْ أنساكِ
برهةَ قُبلةٍ وحبيبةٍ أخرى
عديني مرّةً أن أشتهي امرأةً وليس بجسمِها مثقالَ أنثى من إناثِكِ.
كان من حقّي على شفتيكِ أن أرقى سياجَ الوردِ حولهما،
ومن حقّي على نهديكِ أن أَنهَدَّ بينهما,
ومن حقي على قدميكِ أمزجَ قُبلتي بالدمعِ فوقهُما..
فتذرَّعي بالموتِ كي أحيا
وقولي إنّ وجهَكِ ليس فردوسَ المدائح
واستطيعي مرّةً ألا تعودي أستطعْ ألا أعودْ.
فقَطِ اسمَعيني . . لا تُطيعيني
عِدِيني ثُمّ لا تأتي
وصيري شمعداناتٍ . . أكنْ شمعاً
وذاكرةً . . أكن ذكرى مضَتْ
وحديقةً صيري . . أكنْ فيها الفراشةَ.
إنَّ جرحي شاسعٌ ويداكِ ضائعتان
وجهي ضائعٌ ويداكِ خائفتان
خوفي خائفٌ ويداكِ تختٌ, والقصيدةُ كلّما أيقظتُها نامتْ وحينَ أنامُ توقظني, فتختلطُ المدائحُ بالمذابحِ والقنابلُ بالسنابلِ..


نادمٌ
أحتاجُ أكثرَ من يديّ ومن جناحيّ الملاكِ لكي أضمَّكِ،
نادمٌ
وبلاغتي تمتدُّ كالصحراءِ حولكِ، رقّتي عطشى، وقافيتي سرابٌ، والحروفُ قوافلٌ ضيّعتُها في أسطرِ الحمّى، وضعتُ،
ونادمٌ أنّي خُدِعْتُ
ونادمٌ عمّا أرَقتُ من العذابِ على مناديلِ الصّبا..
فلأكذبَنَّ على المدى ولأنكُثَنَّ إذن بوعدي.
ربما أخطأتُ حقاً
غيرَ أنّ البحرَ أزرقُ ما يزالُ وما تزالُ نوارسي بيضاءَ،
شدّيني بأغلالِ الأنوثةِ
إنّ شامةَ ظهرِكِ الآن انتصارٌ للنساءِ على القصيدةِ، والقصيدةُ نصفها كذِبٌ، وربعٌ للسماواتِ التي تبكي، وربعٌ للنّهايةِ..
فادخلي..
ولْتغلقي البابَ الذي لم ينغلقْ
ولْتبدأي
فأنا انتهيتْ..


* * *






أنا كاذبٌ مهما أقُلْ



أنا كاذبٌ مهما أقُلْ
ألصمتُ في الغرفاتِ يشهدُ وحدتي
والليلُ يشهدُ أنّ كلَّ وسائدي إبَرٌ
وأنّ أَسِرّتي حجرٌ، وأغطيتي المطرْ.
سأحاولُ الآن التّنصُّلَ من دموعي والتّغاضي عن نزيزِ الجرحِ، أرسمَ مشهداً للروحِ مبتعداً عن المعنى وعن تفسيرِ أحزاني القديمةِ,
لم يعدْ في وُسْعِ قلبي سردَ سيرتهِ على المطرِ الخفيفِ،

سأُرجِعُ الآن الزهورَ إلى الحدائقِ، والكلامَ إلى الهواتفِ، والرسائلَ للحمامْ
ندماً على ما فاتَ من وردٍ
وخشيةَ أن أخونَ الأبجديةَ
مرّتينْ..

ماذا سأكتبُ عنكِ بعدُ؟
وكيف أُقنِعُ هذه الدنيا بأنّي ما حَبَبْتُكِ فيكِ لكنّي حَبَبْتُكِ في القصيدةِ؟
يعلمُ الشعراءُ أنّي لا أراكِ سوى لِماماً خلفَ أبوابِ الأغاني، أو مصادفةً على طُرقِ السنينِ
وليس ما بيني وبينكِ غيرُ جسرِ الأبجديةِ.
بيدَ أنّي
كلما لَمَّحتُ لاسمكِ بين فاصلتينِ
يصبحُ للبلاغةِ ملمسُ الأنثى
وللكلماتِ دفءُ لهاثها بين الوسائدِ..


كاذبٌ مهما أقُلْ
أنا ما مَسَسْتُكِ قطُّ إلا في زُجاجِ محابري
ما مرّ ثغري قطُّ إلا فوقَ ناياتِ الأنينِ
وما شممتكِ قطّ
لكن مذ حملتُ قصائدي
ظنّوا بأنّي بائعٌ للوردِ..
لم أعتدْ عليكِ
ولم ننمْ متعانقَينِ على رصيفِ البحر يوماً
لم نكن إلا خُرافةَ ريشةٍ غمَّستُها بالخمرِ لما ضاقَ بي
حبري، فأسكرتُ الخليقةَ بالنشيدِ.
لقد تعبتُ من الحنينِ ومن صدى الغرباءِ فيّ,
أنا العليمُ بما تخبّئهُ إناثُ العنكبوتِ
أنا الأميرُ أسيرُ أغنيتي
أنا البازي المُطِلُّ على البُزاةِ
وليس لي قلبٌ لأعشقَ
غير أنّي كلما ابتسمتْ لصبحيَ وردةٌ
دقّت على شفتيّ أجراسُ المديحِ,
وليس لي عينانِ كي أبكي
ولكن كلما لامستُ سهواً صفحةً بيضاءَ
سالتْ من أصابعيَ الجداولُ..


بالحروفِ أنا اختلقتُ غوايتي
دوّرتُ حرفَ النونِ ـ جَلَّ بهاؤُهُ ـ حتى استدارَ
النونُ نهدا
ثم قلتُ لنقطةِ النونِ استريحي حلْمةً في حِضنهِ..
يا عينُ كوني العينَ إنَّ رموشَكِ الراءاتُ,
يا أنفُ اكتملْ ألِفاً، ويا حَرفُ احترقْ.


.. ونفختُ من روحي
فقامت من رمادِ الشِّعرِ قامتُكِ التي جبَلَتْ يدايْ
من طينِ أوراقي ومن ماءِ الدّواةِ ومن رؤايْ..

وفُتِنْتُ
حتى خِلتُ طاولتي سماءً
والتفتُّ إلى ملائكةٍ من الأوراقِ بيضٍ طائفاتٍ في سَديمِ قصيدتي
ورأيتُ أقماراً من الكلماتِ تسقطُ منْ يدَيّ
وكنتِ بين يديّ عاريةً كموجِ البحرِ
قلتُ: أيا ملائكتي اسجدوا لسوادِ غُرَّتِها.
فخرّوا سجّداً
إلا جراحاتي أبَتْ واستكبَرَتْ
قالتْ: أنا بدمٍ أكونُ وهذهِ بالحبرِ كانتْ.

.. كنتِ عاريةً كموجِ الحبرِ
واختلطتْ عليّ مسالِكُ الرؤيا
فأسندتُ الكلامَ على ذراعِكِ
ثم نِمتُ..

اللّيلُ يشهدُ أنّ كلَّ وسائدي إبَرٌ
وأنّ أسرّتي حجرٌ وأغطيتي المطرْ
أصحو على ريحٍ تقلّبُ كلّ صبحٍ دفتري
وعلى كؤوسٍ نصفِ فارغةٍ
فلستُ أرى على الأوراقِ إلا خدعةَ الكلماتِ
أو كذبَ البلاغةِ.


.. هكذا تغدو الخسارةُ رايةً بيدِ الحنين,
وتصبحُ الأنثى ممالِكَ للبكاءِ، وُلاتُها الشعراءُ واللغةُ الخرابُ.
وهكذا
أصحو لأقنعَ هذهِ الدّنيا
بأنّي ما حبَبْتُكِ في القصيدةِ
بل حبَبْتُكِ فيكِ..
ماذا سوفَ أكتبُ؟
كاذبٌ مهما صدَقتُ
وعاشقٌ مهما ادّعيتُ
وشاعرٌ
حتى الأبدْ..

* * *














III. الطّوفَان.. فالخُروج




الرواية الأكثر صحةً لحادثتي
الطوفان والخروج



i. تداعيات الراوي

جسدانِ..
هذا اللّيلُ يدخل في لهاثِهِما.. ويخرجُ.
كيف أروي ما أرى؟
أخشى إذا نبَّهتُ أرضَهما بخَطوِ قصيدتي, أن يجفلَ النحلُ الذي يتأمّلُ الآن انهدامَ الوردِ فوقَ الوردِ,
والشفتينِ فوقَ النهدِ.
ليسَ لديّ من أفقٍ سوى شِقٍّ صغيرٍ عبر بابِ الذكرياتِ,
وليس من ضوءٍ لهذا الوصف غيرُ توهُّجِ الحُمّى وقد سالتْ من الجسدينِ مثلَ الحبرِ نحوي..
كيف أروي ما أرى وأنا أطلُّ عليهما متوجّساً من ذكرياتي هذهِ؟
أخشى إذا لمحَتْ حنيني
أن تعجّلَ بانشطار العاشقَينِ إلى:
غيابٍ و انتظااارْ ..



لا شيءَ أبعدُ عن عيونِ اللّيلِِِِِِِِ منْ شمسٍ تنامُ على سريرِ البحرِ..

هيّا يا قصيدةُ إنني استُدْرِجْتُ نحوكِ لا مناصَ الآن لي
هيّا لننزِعْ ريشةً من نسرِ ذاكرتي ونغمسْها بمحبرةِ السماءِ.
فكيف كيفَ لعاشقٍ مثلي المثولُ لما يضجُّ الآن في دمهِ
من الأقمارِ؟! كيف لحبريَ الآن السكوتُ عن اشتياقٍ قدَّ من دُبُرٍ قميصَ سكينتي؟!

سأرى وأروي ـ ما استطعتُكِ ـ ما أرى من شقِّ بابِ الذكرياتِ. وسوف أفشي كلّ ما باحتْ بهِ العضَلاتُ للقُطنِ المخضّبِ بالنبيذِ. وفي هدوءٍ سوف أجمعُ ما سيسقطُ عن سريرِهما
وأحفظهُ دليلاً شاهداً
لصبيحةٍ تأتي
فتنسى الأغنياتُ الأغنياتِ
وينكرُ الجسدُ الجسدْ...




ii. شهادات الراوي

أمّا وما زلنا بأوّل ليلِنا
فأنا سأروي ما أرى بأدقِّ تفصيلاتِهِ :

جسدانِ
ينحدرانِ من ظبيٍ يمشّطُ للغزالةِ مرجَها العالي إلى نهرٍ يفيضُ على أقاحِ الضّفتينِ. ويرسمانِ على مذكّرةِ
الحقولِ فراشةً تتنفّسُ البركان..
ذاكَ التلُّ أعلى من أنينِهما
ولكنّ الأنينَ الآن أقربُ للسماءِ من الصلاةِ..
الوقتُ يمضي بي تنَهُّدةً تنَهُّدةً ويدخلُ في عناقِهما القويِّ وفي جنونِهما ويخرجُ..
فاخمِشي صدرَ النحاسِ بعشرِ أظفارٍ وعُضّي يا امرأةْ،
ولتمزجي بدمِ الحصانِ ندىً يرصّع تاجَ صدرِكِ يا امرأةْ،
وتلألئي زبداً وموجاً يغسلُ الصّخرَ المرابطَ حولَ شطِّكِ يا امرأةْ،
ولْترفعي ساقَ المدى، وتسلّقي برجَ الفحولةِ واهدميهِ أنوثةً فأنوثةً بمسلّتَينِ طويلتينِ طويلتينِ،
مسلّتانِ فقطْ، وبعد هُنيهةٍ سنرى ارتطامَهما على كتفَيهِ.. فاحتشدي بجسمِكِ كلِّهِ من أجلِ هذا الزّحفِ، وارتفعي على فرسِ الصراخِ لأنّها لغَةُ البراري, فاصرُخي, هيّا اصرُخي إنْ كنتِ سيّدةَ البراري,
يا امرأةْ..

وأنا كراوٍ لا يجيدُ سوى الروايةِ
ينبغي أن أُنصِفَ الجسدينِ من كذِبِ الرّواةِ السابقين.
نعمْ صحيحٌ أنّ طوفاناً صغيراً فارَ من برقَيهِما،
لكنّ ذلكَ لم يكنْ من أجلِ نوحَ ومَنْ معَهْ..
ونعم رأينا الجندَ والأشلاءَ والعرباتِ طافيةً على الأمواجِ،
لكنْ لم يكن فرعونُ وقتئذٍ يطاردُ قومَ موسى..

كلُّ ما في الأمرِ أني كنتُ خلفَ البابِ مختبئاً,
أطلُّ بكلِّ ذاكرتي، وأصغي بانتباهٍ لانهمارِ الياسمينِ على سريرِ روايتي:


جسدانِ ..
أمّا أنتَ، يا وَعْلاً على قِممِ الأنوثةِ لا يفرّقُ بين سنبلةٍ وأخرى، فاقتحمْ حقلَ الزّغبْ،
افتح كتابَ الوردِ واكتبْ سيرةَ الأفعى، وقلْ لي كيف حالُ الّلوز في شفتَي فتاتِكَ؟
يا لَجوعِكَ..
يا لَجوعِ خطاكَ,
خوّضْ حيث شئتَ، فإنَّ أرضَ الله ملءُ يديكَ، دوِّرْهَا على عجلٍ ودوّرها لتكتشفَ الفصولَ من الربيعِ إلى الربيعِ إلى الربيعْ..
فلأنتَ أجدرُ باختصارِ العمرِ
في ليلٍ سريعْ ..




بأدَقِّ تفصيلاتِها مرَّتْ بيَ الحُمّى
سمعتُ وما استمعتُ أنا
رأيتُ وما ارتويتُ أنا
رويتُ وما حلفتُ..
وسوف أبقى خلفَ شِقِّ البابِ ـ بابِ الذكرياتْ،
أنا شاعرُ الأسرارِ أحفظُ كل أسرارِ الحنينِ،
فليس بي جَلَدٌ على الوصفِ الطويلِ وليس مِن عاداتيَ الإفشاءُ.
ليلٌ ..
لم يعدْ لي منهُ
غيرُ كلامِ ذاكرتي لذاكرتي ..



هنالك شرشفٌ رطْبٌ يجفّفهُ الّلهاثُ
على سريرٍ ظلَّ محتفظاً برائحةِ البحار ..
ـ غداً أعودْ ..
سقفٌ تلبّدَ بالغمامِ وبالوعودْ,
نهرانِ فاضا مرّتينْ،
عسلٌ يجفُّ،
حدائقٌ منثورةٌ فوقَ الأريكةِ،
مُتعَبانِ ومُتعَبان..
وشعرتانِ على الوسادةِ..
قلتُ: لا تتأخّري.
كحلٌ على المنديلِ..
قلتِ: غداً أعودُ.

.. وترتدي أزهارَها وحريرَ مشهدِها
وتفتحُ بابَ عتمتِها
لتخرجَ من خطايا الحُبِّ..

أغلقَتِ الصباحَ وراءَ قُبلتِها
وأغلقتِ الزمانْ ..



فرويتُ حين رويتُ :
إمرأةٌ
وعاشقُها
وليلٌ..
حالفاً لمّا حلفْتُ :
ثلاثةً كانوا ورابعُهُم سريرُ،
خمسةً كانوا وسادسُهم هديرُ،
سبعةٌ، والبحرُ ثامنُهم.
ونِمنَا..
قلتُ نِمنَا ليلةً،
أوْ
بعضَ ليلْ..


* * *




ثلاثة فصول لضمائر الغائب




الفصل الأول
ـ المشهد 1 ـ


هُــوَ
أكملُ مِنْ وصفِهِ في خيَالِ الرّواةِ
وأجملُ من برقِهِ في غمامِ الرجال
على ركبتيهِ بكتْ ألفُ أنثى
وصلّتْ لهُ حين مرَّ الجبالْ..
أمّهُ ولَدتْهُ
فما إن رأَوهُ على ضفَّةِ النهرِ
حتى تبنّاهُ كلُّ الملوكِ..
تربّى معَ الخيلِ حتى علا صوتُهُ في الصهيل،
فلّما رأتهُ العذارى يطلّ عليهُنَّ وهو يشمّرُ عن
ساعدِ النارِ،
قطَّعنَ أيديَهنَّ وهنَّ يقشّرْنَ
أثوابَهنْ..








ـ المشهد 2 ـ

هِــيَ
أكملُ من وصفِها في خيالِ الرواةِ
وأجملُ من وردها بين شوكِ الصبايا
على قدميها بكى الشعراءُ
وصلّت لها مذ رأتْها المرايا..
أمُّها ولدَتْها
فخافت عليها من الملكاتْ.
ونساءُ المدينةِ شاهدنَها
فهرعْنَ يخبِّئنَ عنها البناتْ.
وتربَّتْ على شجرِ الوردِ في ساحةِ الدارِ
حتى تفتّحَ في صدرِها جنّتانِ
وعرّشَتِ الياسمينةُ
ما بين
ساق الخزامى وجذعِ اللُّبانِ..


الفصل الثاني
ـ المشهد 1 ـ


قبلَهُ
لم يكن في المدينةِ ما يؤلمُ الوردَ،
لكنّهُ عندما جاءَنا
عندما جاءَ هذا الغريبُ النحيلُ الجميلُ الخجولُ
رأى بنْتَنَا
غيمةً تغزلُ الأمنياتِ بصنّارةِ البرقِ،
كانت ضفيرتُها كلما انتفضَتْ
تنشرُ الطّلْعَ بين البساتينِ،


لم ينتبه أولَ الأمرِ للبردِ في قلبهِ
غير أنّ ارتعاشَتَهُ
ـ عندما همَّ بالحبِّ والحبُّ همَّ بها ـ
أشعلَتْ جمرتينِ على وجنتَيها،
لذا ضمَّها
ولذا جَفَلتْ
ولذا هرولَتْ في الطريقِ إلى بيتها..
فاعتراهُ المطرْ.










ـ المشهد 2 ـ


.. أفلا تسمعينَ على بابِ حُلمِكِ طَرْقَ خيالي
ألا تسمعينَ إذا نامَ أهلُكِ وقعَ دمي فوق عتْبةِ أغنيتي؟.
ـ هكذا سألتْها رسائلُهُ.. هكذا.. هكذا ـ


.. وإذا نامَ في اللّيلِ أهلي
سأسحبُ مزلاجَ بيتي لأجلِكَ يا صاحبي.
ـ هكذا أدخلتْهُ إلى روحِها.. هكذا.. هكذا ـ






ـ المشهد 3 ـ

سنةٌ .. سنتانْ
وهما يُنفِقانِ الورودْ
قمرٌ .. قمران
ولا يشربانِ من العمرِ غير النبيذِ،
فلا نفِدَ الوردُ من جسمِها ويديهِ
ولا نفدَ الخمرُ من قدحَيها على شفتَيهِ..
وكان صهيلُهما في حقولِ الجنونِ
يُحِيلهما فرَساً وحصاناً.
فيا عشبُ كن شاهداً مُنصِفاً
واعترفْ بدَمٍ جفَّ فوقَ مُلاءةِ ليلِكَ
منذ تقطَّرَ من مُهْرِ قلبَيهِما..




الفصل الأخير

ـ المشهد الأخير ـ

عندما ذبحوها بكى الياسمينُ،
بكتْ طرقاتُ المدينةِ والشرفاتُ بكتْ، وبكى النحلُ، حتى القفيرُ بكى والفراشاتُ والقبّراتُ، العزاءُ بكى والزفافُ، ونحن بكينا, بكينا..
رأينا دماً سالَ, سالَ وطوَّقَ سورَ المدينةِ,
لطَّخَ أيضاً لِحَاهُمْ، ولوَّثَ أعلى عماماتِهمْ عندما علّقوا بجديلتِها رأسَهُ..
كان ذلك لمّا وشى بهما الفجرُ بعدَ الهزيعِ الأخيرِ من الحبِّ.
صاحوا
ـ وهم يرفعونَ المكائدَ فوق رؤوسِ الرماح ـ :
لكم قلبُهُ، ولنا قلبُها.. ولها قلبُها، وله قلبُهُ..
ولهُ ..
ولها ..


ثم سَـارَ التلاميذُ خلفَ الإمام
وسَــــــااادَ الظّلامْ ..


* * *






إذا جئتَ قطَّعْنَ أحلامَهنَّ



سأعطيكَ أكثرَ مما أردْتَ
ولكن ترجّلْ
إذا كنتَ حقاً أميرَ الغناءِ ترجّلْ
وغنّ لأرملةٍ في الثلاثينَ من زهرِها
وتغزّلْ
بخَصرٍ يفسّرُ سِرَّ المضائقِ بين البحار
ونهدٍ مُدلّلْ..
لقد راودتْكَ التي أنتَ في بيتِها عن صِباكَ،
وقالتْ: تزمّلْ
بشَعري.. وغلّقتِ البابَ والشرفاتِ،
وقدّتْ حنينكَ من قُبُلٍ أنْ تعجَّلْ.
تعجَّلْ
ولا تصغِ إلا لثغرٍ يئنُّ
ولا تتنفسْ سوى الياسمينِ
ولا تنظُرنَّ إلى البدرِ إلا إذا صارَ أكملْ.
تشبّثْ بخِلخالِها ما استطعتَ
وعلِّقْ عليهِ ثلاثاً وعشرينَ شمساً تُضِئْ ليلَ عمرِكَ، وارحلْ
إلى ركبتَيها، وفُكَّ البراري
وحرِّرْ حصانَ الجنونِ المُكبَّلْ.
لقد راودتْكَ التي أنتَ في حِضنِها عن شفاهِكَ،
واستحلفتكَ تقبّلُها من جميعِ مساماتِها
ودَعتْكَ لأن تعتلي مخملَ الأبديّةِ، إن كنتَ تقْبلْ..
لقد أدركَتْكَ وكنتَ الأسيرَ
وقد حرّرتْكَ وصرتَ الأميرَ
وقد أدخلَتْكَ فراديسَها وأضاءتْ مداها
وقالتْ: تأمّلْ.
لقد غسلتْكَ بغيمِ الأنوثةِ
وامتدحتْكَ أمامَ النساء
وأعْدَتْ لهنَّ السكاكينَ، حتى إذا جئتَ
قطّعْنَ أحلامهُنَّ
وأيقَنَّ أنّ الغوايةَ وعدٌ مؤجّلْ.

ستعطيكَ أكثرَ مما أردتَ
ولكنْ ترجَّلْ
وقلْ: إنّ كعبَ حذائكِ شقّ عذابي
فلا تتركيني إذا الليلُ فاتَ
ولا تتركيني إذا الليلُ أقبلْ.
وقلْ: إنّ صدرَكِ بستانُ دِفلى
وقلْ: إنّ روحي ملاكٌ يحوّمُ حولَ سريرِكِ..
من أيّ شيءٍ ترى أنتَ تخجلْ؟

تغزّلْ بأرملةٍ في الثلاثينَ من سِحرِها
قد دعتْكَ إلى سِرِّها:
يا أميرَ الغناء
تفضّلْ
تفضّلْ..


* * *








لم أستطعْ.. لم أستطعْ


تتنهَّدُ الصحراءُ حولي.


.. قبلَ عامينِ التجأتُ وصاحبي للغارِ،
قال: الليلُ لا يمضي وقد مضَتِ الخيولُ
فأين نذهبُ والسحابُ الآن يبسطُ هذه الصحراءَ
منديلاً.. ويبكي؟.
قلتُ: لا تحزنْ، فإنّ قصيدتي معنا.
وقلتُ لهُ: انتظرني، إنني آنستُ كرْماً
علّني آتي إليكَ بخمرةٍ كي نصطليها.


.. قبل عامين اقتربتُ،
ولم أكن بعدُ انتبهْتُ إلى لهيبِكِ عندما نادَيْتِني:
إخلعْ هنا نعليكَ
وادخلْ كي أقبّلَ فاكَ
تخرجْ شاعراً من غيرِ سوءْ..


فدخلتُ
لكن لم أجدْ إلا غيابَكِ
فاستدرتُ وقلتُ أرجعُ كي أنادمَ باشتعالي صاحبي..
لكنني لم أستطعْ..
لم أستطعْ بعدُ الخروجْ.


* * *











IV. ما لي على الأرضِ بَعدِي خَلِيفَة..



القابضون على حِفنةٍ من ريح


نهضنا مساءً مع الريح ..
قلنا لهم:
عندما تتركونَ غداً
ما تركنا لكم من حنينٍ
فلا تندموا
واعلموا أنّنا لم نكنْ أنبياءَ كما تحسبونْ.
وقلنا: إذا ما رجِعنا فلا تعرفونا
ولا تحملوا وِزْرَ أشواقِنا
وادخلوا في مخادعِكم شامتينَ
بومضةِ دمعتِنا فوق قارعةِ العمرِ..

ثم استدرنا ببطءٍ
ببطءٍ وسِرنا إلى سَبْتِنَا،
كان ذلك بعد السريرِ الأخيرِ لكانونَ
أي قبلَ أنْ أكتبَ اسمي على نهدِ أنثايَ بالكُحلِ,
كنتُ خلعتُ ضياعي وكنتُ اقتربتُ كثيراً من النهرِ،
علّقتُ ثغري على ثغرها, تاركاً خيلَ روحي على ضفّةِ الجمرِ تصهلُ تصهلُ حتى الصّباح..

مشينا إلى سَبْتِنا..
لم نَعِدْ أحداً بالرسائلِ
أمّا الحنينُ فكان وراءَ سياجِ الشتاءِ
يدلِّكُ سكّينةً بانتظارِ وصولي
وحينَ وصلتُ طلبتُ قميصاً وخبزاً
وكنتم معي..

لم نكن واثقينَ من البحرِ
وهو يطيلُ تأمّلَهُ بانحناءِ مناكِبِنا
وتهاوي فَنَاراتِ أيامِنا خلفَنا
نامتِ الذّكرياتُ طويلاً
وآنَ لحُبٍّ كهذا ـ شغلناهُ عنّا طوالَ العصافيرِ ـ
أن يدركَ الأغنياتِ التي لم نقلْها له عندما كان أصغرَ،
قد لا نعود إلى أهلِنا الطيّبينَ
ولا لالتفافِ طفولتِنا حولَ مدفأةِ الخُبزِ
لكنّنا ـ والخريفُ يسافرُ في صدأِ العرباتِ ـ
نرى أنّنا لم نزلْ قادرينَ على الموتِ حُبَّاً
وقد شابَ فينا
وشاخَ الرحيلْ . .

وأنتِ..
لماذا جميعُ الأَسرّةِ فارغةٌ بيننا ؟
أشتهيكِ
لشدّةِ ما أشتهيكِ أكادُ أخونكِ
لا.. لن ألومَ النوافذَ
أعلمُ أنّ جميعَ النوافذِ مفتوحةٌ
ولكنني سألومُ القصيدةَ، تلك التي سقطتْ عندَ منتصف الريحِ مثقلةً بالهزيمةِ.
ويْحكِ
ليتَ اهتزازةَ نهديكِ بين ذراعيَّ
لم تنشرِ النحلَ في ردهاتِ دمي،
أنت لا تعرفينَ عن الليلِ شيئاً
ولا تسمعين خُطا الذكرياتِ,
ولا وقعَ دمعي على شارعِ الغرباء,
فقطْ تخرجينَ صباحاً إلى أُصُصِ الشّرفاتِ
وتَسقينَ وردَ حياتكِ, منصتةً لخريرِ حياتي، هنا,
خلفَ ناصيةِ الإنتظارْ..

ونحن الذين نسيرُ إلى سبتِنا..
كلّما.. كلّما
دخلنا إلى قريةٍ أفسَدَتْنَا، ولعَّنَنَا أهلُها،
وتقافزَ صِبْيتُها خلفَنا بالحجارةِ، أمّا الغواني فكنَّ يُقَبِّبْنَ
أردافَهنَّ لكلِّ الرجالِ عدانا.. ونحن لمَحْنا الخديعةَ
ملتفّةً بالعباءة تدلجُ بين المجرّاتِ بحثاً عن الله،
يا ربِّ.. إنْ كان لا بدّ أنْ تطبقَ الأخْشَبَيْنِ
على أحدٍ، فليكن ـ يا قديرُ ـ علينا.


وأنتمْ ..
سنعلمُ عمَّا اشتياقٍ بأنّا قسونا كثيراً عليكم
مساءَ نهضنا مع الريح.. قلتُم:
سنتركُ أقداحَكم في أماكنِها هكذا
نصفَ فارغةٍ ريثما ترجعون. وسوفَ نُربّي غيابَكُمُ بيننا ولداً طيّعاً مثلَ أبنائِنا.
وسنكسرُ كلَّ المرايا التي عشقتْكم لكي لا ترى بعد ذلك مَنْ هُمْ أقلُّ جَمالا. سنُبقي الشبابيكَ موصدةً لتظلّ روائحُكم هكذا، كالفراشاتِ، غافيةً فوقَ جدرانِنا..




ومشينا إلى سبتِنا..
أيها الحلمُ.. لا تكترثْ لسماءٍ تبدّلُ عمداً أماكنَ نجماتِها،
واستعنْ بالبحارِ، وكن لي سماءً وغيماً أكنْ لكَ أرضاً وعشباً.. سلامي عليكَ وأنتَ السلامْ
ومنديلُ بنتٍ وراء الجبالِ, وحُمَّى, ورفُّ حمامْ
يظلّلُني برسائلِها: " يا حبيبي ، جميعُ النوافذِ مفتوحةٌ
للقصيدة، لا، لن ألومَ القصيدةَ بل سألومُ النوافذَ
كمْ هيَ عاليةٌ يا حبيبي".


ونحن على أُهبَةِ السّبتِ..
كنتُ طلبتُ قميصاً وخبزاً، وكنتمْ معي،
والقصيدةُ كانت تحاصرُنا مِنْ جميعِ الأماني.
أخيراً أخيراً.. نصَبْنا الخيامَ على مهلِنا فوق سفحي،
وصحتُ: سيدركُنا الحبُّ عمَّا قليلٍ
ضعوا حطبي ههنا، وارفعوا رايةً لتَدلَّ علينا رُعاةَ البنفسجِ،
صفّوا الكؤوسَ الجديدةَ حولَ الأغاني الجديدةْ،
وغنّوا معي
كلّ ما يتطلبه الله منْ أغنياتْ.


وكنتمْ معي
وكنتُ أعاوِنُكمْ مدرِكاً أننا ما وصلنا لأنّا وصلنا
وصلنا لأنّا تعبنا
وكنتُ أحسُّ، وكنتم تحسّونَ أنّي كذبتُ علينا
وأنّ الشتـاءَ الذي ينفذُ الآن عبرَ ثقوبِ الخيامِ
سيطفئ أسماءَكمْ بعدَ وهمٍ قصيرٍ، وأنّهُ ما منْ قميصٍ وما من رغيفٍ، وما من غلامٍ يصبّ لنا نخبَ هذا الوصول. وأنا سنرجعُ، هذا إذا ما استطعنا الرجوعَ،
وأنّا سقطْنا مع الريح..
ما إن بدَأنا نحسُّ جمالَ القصيدةِ حتى انتهتْ
واستدارَ عن اللغْزِ شاعرُها
مَرَّ من بيننا متعباً
ثم أقعى جميلاً على عتبةِ الأمنياتْ،
ومَـــاتْ..


* * *





الأَرضُ دَفتَريَ الصَّغير




وعداً عليَّ
لأرفعَنَّ الآن صاريتي وأقتحمَ الأنينْ
ولأطعنَنَّ بنصلِ زنبقةٍ فؤادَكَ سيِّدي
ولأرجمنَّكَ بالندى و الياسمينْ.
ستطير أوراقي إليكَ
وسوف تدرك أنَّ طفلاً فيَّ كنتَ تحبّهُ
قد شاخَ شاخَ وخلْفهُ السنواتُ أمستْ لحظةً
وغدتْ ثواني حُلمِهِ الآتي سنينْ.

الحبُّ خيطُ حكايتي
والحزن نسَّاجٌ على نولِ اغترابي
والتي انتظَرَتْ مجيئي
لم تجئْها غيرُ قُمْصاني مُقلَّمةً بِدَمْعي
أوْ مَنَاديلي مُطَرَّزَةً بِأَزْهارِ الحَنينْ.

يا سيِّدي مَن أَنتَ
حتَّى كُلَّما جِئْناكَ مِلحاً جِئتَ بحراً
كُلَّما جئنا زُجاجاً جئتَ أَحجاراً
وجئنا شَمعَتَيْنِ فَجئتَ ناراً ؟





يا أبي شكراً
لقد دفَّأتَنا هذا الشتاءْ
قطَّعتَ غاباتٍ بكاملِها إلى أنْ ذابتِ
العَضلاتُ في زِنديكَ، وارتفعتْ تلالٌ من حطبْ
. . لكنَّ فأسَكَ قد أصابتْ وردتي
وذِراعَ بأسِكَ أسقطَتْ أعشاشَ طيري
يا أبـي..



عِظْني إِذا ألْفَيتَ رِيحَ صِباي طائشةً
فَقَد أوتِيتَ مِن لُقْمانَ حِكمَتَه
ومِن يعقوبَ أوتيتَ البصيرةَ فاكتظَظْتَ رؤىً ونورْ.
عظني إذا امرأتي غدتْ سجَّانةً
ورَأَيتَ أَوراقي غدتْ زنزانةً
قُضبانها هذي السطورْ.
وانزَعْ بِقَسوَتِكَ البَيارقَ عن ذُرى ألَمي
وجاهِدْني على حلُمي... وقل لي:
"يا بُنيَّ اصبِرْ فإنَّ الصبرَ من عزمِ الأمورْ
واحرسْ – إذا أحببتَ – قلبكَ يا بُنيَّ
ولا تعجّلْ بالدخولِ، فإنَّ بابَ الحبِّ
باطنَهُ العَذابُ وإن ظاهرَهُ الزهورْ
صعِّرْ – إذا نادى الملوكُ عليكَ – خدَّكَ
وامشِ مختالاً فخورْ
وارفَعْ – إذا غنّيتَ – صوتَكَ
واجعلِ الغَيماتِ أقلاماً
فإن الأرضَ دَفترُكَ الصغيرُ
وإنّ بحرَ الأرضِ بين يديكَ
محبرةٌ تفورْ.."


الأرض دفتريَ الصغيرْ
عمّا قريبٍ
يُدرِكُ الشعراءُ أن بلاغَتي تَرَفٌ
وأنّ صَدايَ ليس سِوى صدى.
عما قريبٍ
يفتح العشاقُ صندوقي
فلا يجدونَ خُصلة شَعرِ عاشقةٍ
ولا صُدرِيَّةَ امرأةٍ، و لا صوَراً
ولا الحُمَّى قصاصاتٍ مبعثرةً بزاويةِ الصِّبا.
عمّا قريبٍ
يهتِكُ الكُهّانُ أثوابي بأني ناسكاً قد عشتُ لمّا لمْ تكنْ أنثى تفُكُّ دواةَ فتنتِها لأغمسَ ريشتي فيها..
لقد شطَّتْ قوافلُ لوعتي
والأبجديّةُ غرّبَتْني.. غرّبَتْني.


الأرضُ دفتريَ الصغير
إذن سَأحفرها بأقلامي
وأودِعُ سيرتي حلماً فخيباتٍ فحلماً ثمَّ خيباتٍ
فرأساً ثمَّ عنقاً ثمَّ أطرافاً
فأكملُ سِيرَتي يا سيِّدي
ويجيئ من بعدي الرواةُ
ويطبقونَ عليَّ دفتريَ الصغيرْ.

لكنّ أوراقي تطيـرْ
وأنـا
أطيـرُ
أنـا
أطيـرُ
أنـا أطيـرْ . .

* * *




أبشّرُكم أنَّ موتي قريب





قريبٌ..
أُبشِّركم أنَّ موتي قريبٌ
أبشِّركم أنَّ أمّي ستبكي
وأنَّ أبي سيصافحُكمْ عند باب العَزاءِ
ويدعو لأبنائِكم بالسّلامةْ..

أنا صاعدٌ
حاملاً ما استطعتُ من الأغنياتِ التي لم أقُلْها،
ومن خجلٍ كان يحرسُني من
جنونِ اعترافي بحبّي لكمْ.
صاعدٌ
نادماً ما استطعتُ على مدُنٍ لم تُقبِّل خطايَ شوارعَها
وعلى فتَياتٍ حلُمتُ بهنَّ ولم
أرتجفْ بين أذرُعِهنَّ الرهيفةِ
مثل نِصالِ القرنفلِ.


عمَّا حياةٍ
سأطوي سنيني قميصاً قميصاً وأجمعُها في الحقيبةْ،
سينبشُها عند بابِ السماءِ ملاكانِ
فيما ملاكٌ ذكيٌّ
سيُخرِجُ من تحت صدري كتابَ الخطايا..
سأنكرُ أنّيَ قد هِمتُ في كلِّ وادٍ
وأنّيَ لم أكترثْ للوصايا,
وأحلفُ أنَّ نحولي صيامٌ
وأنّي لكثرةِ ما قد سجدتُ امَّحَتْ رُكبَتايا.
وسوف يصدِّقُني الأنبياءُ
وسوف يكذِّبُني المُتنبّي
ويشهدُ أنّي على الأرضِ شاركتُهُ
خمرَهُ
حبرَهُ
والصّبايا..

قريبٌ.. قريبٌ
وأحسَبُني صرتُ حقّاً هنالكَ،
أوصيكمُ الآنَ أنْ تنثروا الشوكَ - لا الوردَ –
فوقي، وأن تضحكوا شامِتينَ بأرملتي وهي تركضُ
حافيةً خلفَ نعشي..
لِتَدعوا عليَّ بطولِ العذابِ وبئسَ المآبِ،
وإنْ شاعرٌ قام يرثي غيابي ارجموهُ
وحيث لقيتُمْ شياطينَ ذُرّيتي فاقتلوهمْ.

أنا قمرُ الشرِّ
إن لمحَتْنِيَ يوماً عروسٌ
فلا تقْبَلوها لأبنائِكمْ
ولا لِبَناتِكمُ رجُلاً كانَ منْ أصدقائي.
وحيث وجدتُمْ كتابي احرِقوهُ
ومن كان يحفظُ فاصلةً من نشيدي اطردوهُ.

أنا الماجنُ القلبِ
لم أُبقِ صاحبةً ليَ بِكراً ولا امرأةً لم أخُنْها
ولم أَلقَ في الدربِ من زهرةٍ لم أدُسْها
جميعُ الحرائقِ كانت بِعودِ ثقابي
وكلُّ قتيلٍ على الأرضِ كان بسيفي
ابتُليتُ بكلِّ المَعاصي
فلم أستَتِرْ
وابتكرتُ مع الشعراءِ الكرومَ
فلم نُبقِ في قدحِ الموبقاتِ ثُمالةْ.
تعلَّم منَّا الرّجالُ خيانةَ زوجاتِهمْ
وأشعارُنا زَيَّنتْ للنّساءِِ خيانةَ أزواجِهنَّ.
إذا ما نطقْنا نطقْنا بكِذْبٍ
وإمَّا صمتْنا فصمتُ التّآمرِ.
في كلِّ بيتٍ زرَعنا الذّنوبَ
وفي كلِّ روحٍ بذَرنا الوساوسَ.
كان النُّوَاسِيُّ أتقى تلامذتي
والحُطَيئةُ ما بيننا كان أنقى لسانا..
فإن زلزَلَ اللهُ بعضَ القُرى,
فلأنّي مَرَرْتُ بها.
وإن أغرقَ البحرُ قوماً لكم,
فلأنَّهُمُ أكرَموني..



أُبشِّرُكم أنَّ موتي قريبٌ
وما لي على الأرضِ بعدي خليفةْ
وما لي وراءَ الجنازةِ من حاشيةْ.


غداً.. سيحدثُكم عن صِبايَ أبي
سيصافحُكم متعباً عند بابِ العزاءِ
ويضحكُ إذ يتذكَّرُ طيشي
ويدمَعُ إذ يتذكَّر عمري
ويدعو لأبنائكمْ بالسّلامة.



موتي قريبٌ..
غداً.. حين تنشفُ عينايَ
لا ترفعوني على أيِّ نعشٍ
ولا تُنزِلوني إلى أيَّ قبرٍ
فقط – حيثُ أغمضُ قلبي– اتركوني،
اتركوني,
فحين تعودونَ
.. لن تجدوني.


* * *



سيموت بموتي الشِعر


سأموت إذنْ,
وسيرثيني العالمُ
وملوكُ العالمِ أيضاً
والخُطباءُ.

ستغيبُ الشمسُ لسبعةِ أيامٍ متتاليةٍ
وتُنَكَّسُ أعلامُ المشرقِ والمغربِ سبعينَ شتاءً
ويعودُ إلى الأوطانِ الغرباءُ.

سأموتُ إذنْ
وحروبُ الأرضِ ستُرجَأُ حتى أُنسَى وتعودَ عصافيرُ الأرضِ إلى التغريدِ.

لسوفَ تشيِّعُني أشجارُ بلادي بالورقِ الأصفرِ
والنخلُ سيزدادُ نُحولاً وستتّسعُ الصحراءُ.

ستُعبِّئُ بالدمعِ عذارى الشامِ ومصرَ جِرارَ الأيّـامِ،
ستُلقي الملِكاتُ قلائدَهُنَّ على قبري ويطلِّقْنَ مراياهُنّ،
وسوف يقومُ لأجلِ اسمي الشهداءُ.

سيموت بموتي الشعرُ ويفنى الشعراءُ.

البحرُ سيرمي ما خبّأهُ منذُ الخلْقِ على الشطآنِ
الليلُ سيذرفُ أنجمَهُ،
وستذرفُ أحرفَها الأسماءُ.




يـــااااااا أمّي،
ما نفعُ دموعِ العالمِ
ما دمتُ رحلْتْ ؟!..


* * *











أَتَمّوا مراسيم دفني




مضى الكلُّ..
قلتُ : مضى الكلُّ
لكنّهم سيعودون في العيدِ كي يغرسوا الآسَ،
سوف أكونُ تهيّأتُ
خَشيةَ أنْ يغرسوه بعينَيَّ
أو يطعنوني بسَعْفِ الحنينْ.
وسوفَ يقولونَ لي: كلَّ عامٍٍ وأنتَ بموتٍ,
ويمضونَ ثانيةً في مهَبِّ السنينْ.


أتَمُّوا مراسيمَ دفني كما ينبغي
ومضى الكلُّ كلٌّ إلى شأنِهِ:
ولدي وابنتي ..... للبكاء
وأمي ..... إلى أرذَلِ الذكريات
عدوّي ..... لبَثِّ الأقاويلِ عنّي
وصحبي..... لخمرتِهِمْ ينفضونَ وصايايَ عن
ساعدِ الليلِ.
لم يبقَ فوقُ سوى امرأتينِ تعانقَتا
وتبادَلتا بالنشيجِ العزاءَ هُما:
زوجتي
والعشيقةُ..


أمّا أنا
وأنا أسمعُ الآن وقْعَ الخُطا وهو يهدأ شيئاً فشيئاً
فإنّي سأفتحُ عينيَّ كيما أرى عتمَتي
وسأرفعُ كفَيَّ حتى أكادَ ألامِسُ أقدامَهم
وسأشكرُ مِنْ كُلِّ موتي
سأشكرُ مَنْ شاركوني حيَاتي..



إذنْ سأعيشُ طويلاً .. طويلاً هنا
والذين يجيئونَ في كُلِّ عِيدٍ
لسوفَ يَقِلُّونَ في كُلِّ عِيدٍ
ومَنْ غابَ منهمْ
سيأتونَهُ كُلَّ عِيدٍ
إلى أنْ يُقيموا بأرضي جميعاً،
ولا يرحلونْ ..


* * *













V. المِـعرَاج..

المِعرَاج



. . . . . . .
. . . . . . . . . , . . . . . . . . .
. . . . . . .
؟



* * *

تمام التلاوي
شاعر وطبيب سوري
صدر له:
منزل مزدحم بالغائبين / شعر/ دار سعاد الصباح- الكويت-2000م


هذا الديوان
صدر عن وزارة الثقافة –دمشق -2006
موثّق لدى وزارة الإعلام-سوريا- دمشق- شعرائيل,
المؤلف: تمام التلاوي, رقم 2357 تاريخ 27/10/2004م

جميع الحقوق محفوظة للكاتب

Email: TammamTellawi@hotmail.com
http://TammamTellawi.blogspot.com




* * *